اللقيط : قصة قصيرة

المؤلفة: حياة جبريل "أتمنى أن تربي هذا الطفل الصغير فوالله قد هزمت "  فتحت السيدة الأربعينية الظرف لكنها لم تستطع قراءة مافي داخله ربما لأن حملة محو الأ…

سرد
المؤلف سرد
تاريخ النشر
آخر تحديث
اللقيط  قصة قصيرة
المؤلفة: حياة جبريل

"أتمنى أن تربي هذا الطفل الصغير فوالله قد هزمت " 

فتحت السيدة الأربعينية الظرف لكنها لم تستطع قراءة مافي داخله ربما لأن حملة محو الأمية جاءت في عز انشغالها ، ثم إن الرهبة والخوف كانا حاجزا يمنعها من قراءة الظرف ، هرولت مسرعة إلى ذلك الصغير المرمي قرب الأوساخ ثم أخذته إلى أحضانها وهي تردد " الله لطيف الله كريم" وصرخت باعلى حبالها الصوتية هذا غلام ولم تكن بشرى بقدر ماكانت خيبة لسكان ذلك الحي الذي تفوح منه رائحة الفقر 

جلست كمبة والحسرة تعلو ملامحها ثم دخلت موجة بكاء صباحية ، كانت كمبة سيدة لها حظ من الجمال قليل جدا ولديها ملامح جعلت الرجال في الغالب لا يتحدثون إليها إلا في إطار العمل إذ لم تكن فاتنة ولم تكن أيضا مثيرة للإنتباه 

كانت سوداء البشرة وملامحها توحي بتاريخ من التعب وصراع مع تقلبات الزمن ، جبينها عريض وأنفها كبير جدا ولذلك يسخر منه اطفال الحي ويقولون إنه مثل كهف الجدات ،وشفاها مكتنزة لكن أسنانها تساقطت بتساقط السنين من جيب عمرها ، هكذا تبدو كمبة وتلبس تلك العباءة السوداء مع شال قصير ولا يتوقف المارة من السخرية من شعرها المجعد القصير وبعضهم يقول " كمبة القرعة" هكذا تبدو كمبة في كل الصباحات مشغولة في تنظيف ذلك الحي إلى  أن تأتي سيارة البلدية 

كانت كمبة تنظف القمامة كل يوم لكنها لم تكن تعرف أن القمامة ستمنحها طفلا في صباح باهت وبارد من أيام يناير .

تساءل أهل الحي عن سبب الدمع ، لأن كمبة سيدة قاسية المظهر ولا تبكي اطلاقا إلا لأمر جلل ، فلماذا تبكي بحرقة لأن صغيرا تم رميه في عاصمة كبيرة مثل انواكشوط أصبح رمي الاطفال فيها موضة أو روتينا يوميا 

عادت بها ذاكرتها إلى شبابها وهي في " كبة مندز" ذلك الحي الفقير والذي تسيطر عليه منازل الزنك وتذكرت كل المسافات التي قطعتها بحثا عن حياة جديدة وكيف كانت تقطع المسافات الطويلة ليلا من أجل أن توفر الطعام لتلك الجدة وعاد بها شريط ذاكرتها إلى أحلام الشابات أنذاك وكيف كانت أحلامها بيت فيه غرفة واحدة وصوت طفل ورغم كل شيء لم يتقدم أحد لخطبة كمبة يوما ، تذكرت كمبة كيف كانت تضع اطنانا من المكياج ثم تنزعها دون أن يكلمها أحد، تذكرت كمبة كل الليالي التي وقفت أمام المرآة عارية تسألها مالذي ينقصني، مالعيب في شخصي؟

ثم أنهارت باكية وصرخت باعلى حبالها الصوتية قائلة. 

احلامي مرمية في القمامة ، كنت اريد طفلا يلعب في أحضاني ويقول لي ماما كمبة، انظروا إلى فمه الصغير والأيادي البريئة ورائحته ، ثم أخذته إلى أحضانها وبكت كثيرا وأبكت النساء في الحي وبعد مفاوضات كبيرة ، قرر الجميع إعطاء الطفل لكمبة الاربعينية الوحيدة

كان أبيض البشرة يختلف عن كمبة في كل شيء، ولا رابطة بينه وبينها سوى الحب، مع الأيام يكبر هارون ومعه يكبر حب كمبة والألفة والرحمة وحين قررت السفر خارج انواكشوط ، اعتقدت الشرطة أن كمبة تحاول الهرب بطفل لا يخصها، ولأنها لم ترض أن تجرحه أو تقول إنه لقيط تم سجن كمبة لمدة ستة أشهر 

كان هارون طويل الشعر وأبيض البشرة وكان صغير الجيبن لكن عينيه كانت واسعة ومفتوحة على الحياة وكان نحيفا جدا بسبب ندرة الغذاء في ذلك الحي الفقير 

لم يبخل مسؤول البلدية ذلك شيئا في سبيل كمبة كان يشفق عليها وبعد ستة أشهر من السجن تم إطلاق سراحها ولم يكن يهمها سوى أن تبصر الصغير هارون وتهرول إليه وهو في السادسة من عمره 

بعد أن نجح متفوقا في ختم الدروس الإعدادية انتقلت كمبة إلى تفرق زينة لتعمل كخادمة عند حاكم تفرق زينة أنذاك وكرما منه منحها غرفة تأويها هي والصغير ثم واصل تعليمه لكن موجة الوعي لم تكن في صالحه، بدأ يشك في هويته وتساءل كثيرا عن سبب اختلافه عن أمه لكنها تجاهلت السؤال القادم من فمه كل مرة 

مع الأيام أصبح الود متبادلا مع أسرة الحاكم وهارون وكانت ابنة الحاكم العانس تشفق كثيرا على هارون وتخبره بكل شيء وكان هناك ميول مشترك وعاطفة بين الاثنين وفي كل مرة يمزح معها تقول له لو شاء القدر وتزوجت كان لدي ابنا في عمرك وتضع يدها على قلبها بكل حسرة

بعد نيل شهادة " ابريفه"  أخبرت كمبه  هارون بأنه صغير ابنتها التي توفيت اثر حادث سيارة وأن زوجها في داكار وسيعود والده قريبا وصدق كذبتها حتى نال الباكالوريا متفوقا وبدأت إجراءات السفر !!

أقرأ أيضا: رسالة انثى الى مغترب غاضب

وفي ليلة صيف حار قررت كمبة أن تواجه هارون بالحقيقة المرة وأن تواجهه هي والصيف بكل قسوته وهو يحزم حقائب الرحيل جلست كمبة قبالته وقالت ولدي اسمعني 

أنت مؤمن بالقدر أليس كذلك، تعرف أن مشيئة الله تسري فينا، وأن الله غالب على أمره، وبأنه عادل لا يظلم، وأنه وهبك عمرا جديدا ومستقبلا مشرقا وحياة علمية ناجحة "

امي ارجوك أخبريني دون مقدمات من توفي اليوم 

ولدي لا أحد، هذا مجرد تذكير 

اعرف مقدمات الايمان التي تسرديها بعد كل وفاة يا أمي 


ليتني امك ياريت يا هارون 

مااااااذا ، مااااهذا 


ولدي في التسعينات ظهرت موضة رمي الأطفال ، وانا لم اهجر تنظيف المنازل والشوارع لأني وجدتك في القمامة، وجدت حلمي ضالتي حياتي


لعلك تمزحين امي 

لا لا 

وجدتك في شتاء بارد مرمي في القمامة مع رسالة تعترف صاحبتها بالهزيمة  أو هكذا فهمت عندما قرأتها زينب ثم قررت اخذك وتربيتك


دخل هارون في فترة صمت طويل وتحول ذلك الثرثار الواثق من معارفه إلى كتلة صمت وغادره المرح ثم تحول إلى عاصمة حزن 


قرر أن لا يسافر إلى السينغال وأن يواصل تعليمه هنا ، ترك الحقائب فارغة وجلس عند ركبتيها وعانقها طويلا


اشهد أن لا أما الا أنت 


وفي الصباح الباكر قال لرفاقه إن منحة الدراسة ستصرف إلى بناء ميتم 

كانت أحلامه بسيطة جدا سلة من حليب الأطفال وأكياس حفاضات ثم ألعاب اطفال رماهم مجتمع الفضيلة المحافظ بجانب القمامة 

بعد أن شيد الميتم ووجد رعاية من أصحاب الأيادي البيضاء كانت ابنة الحاكم التي بلغت من العمر اربعينا عاما تزوره كل فترة وتحمل إليه الكثير من العطايا وتصرف بإنفاق 


ثم في آخر زيارة لها سلمت عليه بعجالة وقالت " آسفة لأني هزمت" وسقطت العطايا من يدها ثم دخلت موجة بكاء هستيرية وقالت:

 ولدي هارون اسفة لأن كمبة ارحم مني ولأن القمامة انظف مني ولأن معدل الإنسانية لديها مرتفع بقدر انخفاضه عندي

تعليقات

عدد التعليقات : 3
  • محمد المامون الطالب أعمر25 فبراير 2025 في 6:51 ص

    ظاهرة شجعها المجتمع بعاداته البائدة، والكل مشارك في هذه الجريمة من العالم إلى الرئيس إلى أصغر فرد في المجتمع ،لكن من يتحمل كل المشكلة هي هذه النطفة البريئة غير أن الأقدار رمتها في زمن صعب كانت لتعيش في بين أسرة تقدرها وتحبها لولا أنها #لقيطة

    إضافة ردحذف التعليق

    » ردود هذا التعليق

  • غير معرف25 فبراير 2025 في 8:14 ص

    قصة رائعة تصف حقيقة المجتمع دون رتوش ...

    إضافة ردحذف التعليق

    » ردود هذا التعليق